Khutbah Dua Imam Mengenai Maulidur Rasul
1. Syeikh Soleh Bin Utsaimin
2. Syeikh Dr Yusuf Al-Qardhawi
لقد بعث الله - عزَّ وجل - نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم – بالتوحيد - التحذير من بدعة الاحتفال بالمولد
... أيها المؤمنون، اتَّقوا الله تعالى واشْكروه على ما مَنَّ به عليكم أن بعث فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياته ويزكِّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، رسولاً أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور: من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظُلماتِ الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظُلماتِ الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومِنْ ظُلماتِ الفوضى الفكريَّة والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدفِ والسلوك، ومن ظُلماتِ القلق النفسي وضيقِ الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها المؤمنون، اتَّقوا الله تعالى واشْكروه على ما مَنَّ به عليكم أن بعث فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياته ويزكِّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، رسولاً أخرجكم الله به من الظلمات إلى النور: من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظُلماتِ الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظُلماتِ الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومِنْ ظُلماتِ الفوضى الفكريَّة والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدفِ والسلوك، ومن ظُلماتِ القلق النفسي وضيقِ الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر، +أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ" [الزمر: 22]، +كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" [إبراهيم: 1-2] .
لقد بعث الله نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والناس يتخبّطون في الجهالاتِ والضلالات، ففتح لهم به أبوابَ العلم في معرفة الله وما يستحقه من الأسماء والصفات وما له من الأفعال والحقوق وأبواب العلم في معرفة المخلوقات في المبدإ والمنتهى والحساب والجزاء، قال الله عزَّ وجل: +وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ" [المؤمنون: 12-16]، مَن الذي علّمنا هذا التطور منذ خُلق الإنسان إلى يوم البعث إلا الله - عزَّ وجل - في الوحي الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم .
وفتح الله لعباده بما بعثَ به نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أبواب العلم في عبادة الله والسير إليه، وأبواب العلم في السعي في مناكب الأرض وابتغاء الرزق بوجهٍ حلال، فما مِنْ شيء يحَتاج الناس إلى معرفته من أُمور الدين والدنيا إلا بَيَّن لهم ما يحتاجون إليه فيه حتى صاروا «على طريقة بيضاء نقيّة؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك»(1) ولا يتيهُ فيها إلا أعمى القلب .
أيها المؤمنون، إنها لَنِعمةٌ كبرى، علينا أن نحمدَ الله عليها وأن نتمسَّك بما جاء به نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن نَعضّ عليه بالنواجذ؛ حتى لا يذهب إلى غيرنا فإن الله يقول: +وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" [محمد: 38]، ويقول: +فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ" [الأنعام: 89] .
لقد بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - والناس منغمسون في الشرك في شتى أنواعه: فمنهم مَن يعبدُ المسيح ابن مريم، ومنهم مَن يعبد الأصنام، ومنهم مَن يعبد الأشجار، ومنهم مَن يعبد الأحجار حتى كان الواحد منهم إذا سافرَ ونزلَ أرضًا أخذ منها أربعة أحجار، فيضع ثلاثة منها تحت القِّدر وينصبُ الرابع إلهًا يعبده .
هكذا عقول الخلق قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، حجر يؤخذ من الأرض بل أربعة أجحار تؤخذ من الأرض: ثلاثة منها تحت القدر مناصب له وواحد يُنصب إلهًا يُعبد.
فأنقذَهم الله برحمته، أنقذَهم الله بهذا الرسول من هذه الهوَّة الساحقة والسَّفه البالغ من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فحقَّقَ التوحيد لرب العالمين تحقيقًا بالغًا وذلك: بأن تكون العبادة لله وحده يتحقَّق فيها الإخلاص لله بالقصد والمحبَّة والتعظيم، فيكون العبد مُخلصًا لله في قصده، مُخلصًا لله في محبَّتهِ، مُخلصًا لله في تعظيمهِ، مُخلصًا لله في ظاهرهِ وباطنهِ، لا يبتغي بعبادته إلا وجه الله والوصول إلى دار كرامتهِ، +قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ" [الأنعام: 162-163]، +وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ" [الزمر: 54]، +وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ" [البقرة: 163]، +فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا" [الحج: 34]، هكذا جاء كتاب الله وتلَتْهُ سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحقيق التوحيد وإخلاصه وتخليصِهِ من كل شائبة وسدِّ كل طريق يمكن أن يُوصل إلى ثلمِ هذا التوحيد أو إِضعافه؛ حتى إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله وشئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَجَعَلْتَني لله ندًّا، بل ما شاء الله وحده»(2)، فأنْكَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الرجل أن يَقرِنَ مشيئته بمشيئة الله بحرفٍ يقتضي التسوية بينهما، وجعل ذلك من اتخاذ النِّد لله عزَّ وجل، واتخاذ النِّد لله تعالى إشراكٌ به .
وإنني بهذه المناسبة أُحذِّر بعض الناس الذين يضعون على جدرانهم لافتاتٍ مكتوب عليها من الجانب الأيمن «الله» ومن الجانب الأيسر «محمد» حذاءً بحذاء؛ أي: وزنًا بوزن فيساوون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالله عزَّ وجل، وهذا نوعٌ من الشرك، وتعليق هذه اللافتات من أصلِه بدعة لا أصل لها من الشرع ما اتَّخذها الصحابة ولا التابعون .
وحرَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يَحلف بغير الله وجعل ذلك من الشرك بالله فقال صلى الله عليه وسلم: «مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»(3)؛ وذلك لأن الحلف بغير الله تعظيمٌ للمحلوف به بما لا يستحقه إلا الله عزَّ وجل، فلا يجوز للمسلم أن يقول عند الحلف: «والنبي»، أو «وحياة النبي»، أو «وحياتي»، أو «وحياة فلان» أو «والوطن» أو «والقوميَّة» أو ما أشبه ذلك، بل لا يَحلف إلا بالله وحده أو يَصمت عن الحلف .
ولما سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يلقى أخاه فيسلِّم عليه أَيَنْحَني له ؟ قال: لا، فمنَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الانحناء عند التسليم؛ لأن ذلك خضوعٌ لا ينبغي إلا لله رب العالمين، فهو سبحانه وحده الذي يُركع له ويُسجد، وكان السجود عند التحيّة جائزًا في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة الكاملة شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - منعت منه وحرَّمته إلا لله وحده .
وفي الحديث أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قدِم الشام فوجدهم يسجدون لأساقفتهم - يعني: زعماءهم - وذلك قبل أن يُسْلم أهل الشام، فلمَّا رجع معاذ سجدَ للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ ؟ فقال: رأيتهم يسجدون لأساقفتهم وأنت أحقُّ أن يُسجد لك يا رسول الله - يعني: أحق من أساقفتهم بالسجود - فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا»(5) من عظم حقِّه عليها .
وروى النسائي بسندٍ جيِّد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - «أن ناسًا جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا وسيِّدنا وابن سيِّدنا، فقال النبي الله صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أُحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجل»(6)، هكذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أُحبّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجل» مع أنه صلى الله عليه وسلم خير الخلق وسيِّد الخلق بلا ريب لكنَّه خاف أن يستهويهم الشيطان فيوقع في قلوبهم الغلو حتى يرفعوا نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - ورسوله فوق منزلته وهي العبودية والرسالة حمايةٌ لجانب التوحيد وسدٌّا لِطُرقه الموصلة إليه قوليةً كانت أم فعليَّة .
ولقد سمعتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكرَ على مَن قال: ما شاء الله وشئت، وقال: أجعلتني لله ندًّا، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على مَن قرن مشيئته بمشيئة الله بحرفٍ يقتضي المساواة، فكيف بِمَن جعل المشيئة للمخلوق وحده دون الله غلوًّا ومدحًا حين قال بعض الشعراء يمدح مَن يخاطبه، يقول:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ | فاحكم فأنتَ الواحدُ القهارُ(8) |
يقولها لبشرٍ ليس يقوله لله عزَّ وجل، فتعالى الله عمَّا يقول الكافرون الظالمون علوًّا كبيرًا .
إن هذا يقول: ما شئت فاحكم لا ما شاءته الأقدار فحكمُك فوق أقدار الله، فسبحان الله رب العرش عما يصفون .
أيها الناس، إن على المرء أن يُراعي جانب التوحيد، وأن يعرف للخالق حقَّه فلا ينقصه ولا يُشرك به معه غيره لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب، وإن عليه أن يعرف للمخلوق حقه ويقوم بما أوجب الله عليه منه ولا يُنزله في منزلة الخالق لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب، فللخالق حقه المختص به لا يشركه فيه غيره، وللمخلوق حقه الواجب إعطاؤه له .
إن على المرء أن يعلم أنه مسؤول عمَّا في ضميره، ومسؤول عمّا ينطق به لسانه، ومسؤول عمّا يفعله في جوارحه، فاستمعوا قول الله - عزَّ وجل - عن الضمير: +يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ" [الطارق: 9-10]، واستمعوا قوله: +أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ" [العاديات: 9-10]، واستمعوا قول الله عن اللسان: +إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ" [ق: 17-20] .
استمعوا هذه الآيات وتأمَّلوا +مِنْ قَوْلٍ" «قول»: نكرة في سياق النفي مؤكدة بـ «مِن» فتفيد العموم في كل قول: ما من قول يلفظ به الإنسان إلا لديه رقيب عتيد، ثم تأمَّلوا ما أعقبه به في قوله: +وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ" [ق: 19]؛ لتذْكروا سكرة الموت إذا أردتم القول وتذْكروا يوم الوعيد فلا تقولوا ما يوقعكم في الوعيد، واستمعوا قول الله تعالى عن الفعل: +وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ" [الانفطار: 10-12]، واستمعوا قوله تعالى: +يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ" [النور: 24-25] .
فيا عباد الله، إن شأن التوحيد لعظيم وإن الإخلاص فيه لدقيق؛ ولهذا قال بعض السلف: ما عالجتُ نفسي في شيء معالجتها على الإخلاص .
إن التوحيد هو الذي بُعثت من أجله الرسل، +وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ" [الأنبياء: 25] .
فاجتهدوا - رحمكم الله - في تحقيق توحيدكم لله بإفراده بما هو أهله من صفات الكمال وبما يستحقه من التعظيم والأعمال، +وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ" [البقرة: 235]، +وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ" [البقرة: 223] .
اللهم حقِّقْ لنا الإخلاص والتوحيد، واجعلنا لك مُخلصين وإليك منيبين، اللهم إنا نسألك عبادة عن علم وبصيرة ونسألك دعوة إليك عن حق وإخلاص يا رب العالمين .
اللهم أَصْلح قلوبنا واغفر ذنوبنا وأَصْلح لنا شأننا كله؛ إنك على كل شيء قدير .
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ونبيّك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشْكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيّد البشر، الشافع المشفّع بالمحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر وأنور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فإن من أعظم منَّةٍ مَنَّ الله بها على عباده بل هي أعظم منَّةٍ مَنَّ بها على عباده لمن هداه إليها، قال الله تعالى: +لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ" [آل عمران: 164] .
بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على «رأس الأربعين»(7) من عمره الشريف صلى الله عليه وسلم، «فكان أول ما بعث كان لا يَرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح»(9) «وذلك ابتداءً من ربيع الأول»(م1) ثم نزل عليه القرآن في رمضان لقوله تعالى: +شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ" [البقرة: 185]، «فبقي ستة أشهر وكان الوحي يأتيه بصفة الرؤيا، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت مثل فلق الصبح»(م2) «أما ولادته فإنها كانت في ربيع الأول وكانت في الليلة التاسعة منه وليست في الليلة الثانية عشرة»(م3)، ولا يهمنا أن تكون في الليلة التاسعة أو الثانية عشرة من شهر ربيع الأول، إنما الذي يهمنا ما أحدثه فيها بعض المسلمين من إقامة الصلوات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واتخاذ تلك الليلة عيدًا يحتفلون بها ويجتمعون صغارًا وكبارًا، رجالاً ونساءً على صيغ صلوات يوردونها لم تكن مألوفة ولا معروفة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ويُنشدون ما كان غلوًا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، غلوًّا يخرج به عن العبودية والرسالة إلى مرتبة الإلوهيَّة والربوبيَّة، ينشدون ما قاله الشاعر يُخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته بأزمنة يقول:
يا أكرم الخلق مالي من ألـوذ بـه | سواك عند حلول الحادث العمم |
إن لم تكن في معادي آخـذاً بيدي | فضلاً وإلا فقـل يا زلة الـقدم |
فإن من جُـودك الدنيا وضرتهـا | ومن علومك علم اللوح والقلم(10) |
هكذا يصفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصفات التي لا يجوز أبدًا أن تكون إلا لله عزَّ وجل، وإن في قولهم:
فإن من جُـودك الدنيا وضرتهـا | ومن علومك علـم اللـوح والقلـم |
بهذا القول: إنكار لربوبية الله؛ لأنه إذا كان من علوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عِلم اللوح والقلم، وكان من جوده الدنيا وضرتها وهي: الآخرة، فما الذي يكون لله عزَّ وجل، إنهم في هذا القول يُنكرون أن تكون الدنيا لله أو أن الآخرة لله - عزَّ وجل - وهذا كفرٌ بَواحٌ لا شك فيه ومع ذلك يعتقدون أنهم بهذا القول يرضون الله ورسوله ويتقربون إلى الله - عزَّ وجل- وهم واللهِ بهذا القول مغضبون لله ورسوله وللمؤمنين جميعًا وهم لم يتقربوا إلى الله به بل ازدادوا به بُعدًا من الله عزَّ وجل، وإن الاحتفال بليلة المولد من البدع التي قال عنها رسول صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»(11) .
إذا كانت هذه بدعة وأقول: إنها بدعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها ولم يُقيمها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن الخلفاء الراشدين لم يفعلوها ولم يقيموها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن الصحابة بعد الخلفاء الراشدين لم يفعلوها ولم يقيموها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن التابعين لم يفعلوها ولم يقيموها، وأقول: إنها بدعة؛ لأن تابع التابعين لم يفعلوها، ولم يقيموها، فقد مضت القرون المفضلة الثلاثة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم»(12)، فأين تكون هذه العبادة إذا كان هؤلاء القرون لم يفعلوها، أهم جاهلون بها ؟ أم هم عالمون ولكنهم استنكفوا عنها واستكبروا عنها ؟ كلا الاحتمالين باطل؛ وبهذا يُعلم بطلان هذه البدعة وأنها لا تزيد فاعلها من الله إلا بُعدًا .
فيا عباد الله، يأيها المؤمنون بالله ورسوله، إن كنتم تريدون حقًا محبة الله ورسوله وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تُحدِثوا في دينه ما ليس منه، لا تشرعوا للناس أمرًا لم يشرعه الله لهم لا في كتابه ولا على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا مِنْ فعل الخلفاء الراشدين الذين أُمرنا باتباعهم، إذا كنتم صادقين في محبة الله ورسوله وتعظيم رسول الله فتأدبوا بين يدي الله ورسوله، لا تُحدثوا في دين الله ما ليس منه فتكونوا ممن عصيتم الله عزَّ وجل؛ فإن الله - تعالى - يقول: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" [الحجرات: 1] .
أيها المسلمون، إن كلَّ عبادة لا يمكن أن تكون مقبولة عند الله حتى يجتمع فيها مع الإخلاص لله - عزَّ وجل - ستة أمور: وذلك بأن تكون موافقة لما جاء به الشرع في سببها، وفي جنسها، وفي مقدارها، وفي كيفيها، وفي زمانها وفي مكانها، فإذا لم توافق الشرع في هذه الأمور الستة فإنها مردودة على صاحبها غير مقبولة منه؛ كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(13) .
وإننا - وللهِ الحمد - في هذه البلاد بما مَنّ الله به علينا من علماء مخلصين مبيِّنين للشريعة وحكام يساعدونهم في ذلك، لا نجد هذه البدعة في بلادنا - ولله الحمد - ولكننا نسمع بها في بلاد المسلمين وفي بلادنا الآن من الأمة الإسلامية كثير؛ ولهذا كان واجب علينا أن نتكلم فيها ليتبيَّن لإخواننا هؤلاء أنها - أعني: الاحتفال بعيد ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم - ليست من شرع الله وليست من دين الله بل هي بدعة وكل بدعة ضلالة وأرجو منهم أن يكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأن يكونوا ممن يدعون إلى الله ويُبلغون إخوانهم في بلادهم بأنها من البدع حتى يكونوا داخلين في قول الله تعالى: +وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت: 33] .
واعلموا - أيها المسلمون - أن خير ما تعبدتم به وخير ما اتبعتموه كتاب الله - عزَّ وجل - وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة وكل بدعة ضلالة»(14)، «وكل ضلالة في النار»(15)، «فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار»(16)، واعلموا بأن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال جلَّ من قائل عليمًا: +إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" [الأحزاب: 56] .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم صلِّ وبارك على عبدك ونبيك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنا كما رضيت عنهم يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين من الكفار والمنافقين، اللهم احمِ حوزة الدين، اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الداعين إليك على بصيرة يا رب العالمين، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح لولاة أمور المسلمين بطانتهم يا رب العالمين، +رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" [البقرة: 201] .
عباد الله، +إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، +وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ" [العنكبوت: 45] .
-------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في مسند الشاميين من حديث العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، رقم (16519)، وأخرجه ابن ماجه -رحمه الله تعالى- من حديث العرباض بن سارية -رضي الله تعالى عنه- في كتاب المقدمة، باب: اتباع الخلفاء الراشدين المهديين، رقم (43) .
(2) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- في مسند بني هاشم، رقم (1742)، ت ط ع من موسوعة الحديث .
(3) أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه من حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب النذور، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، رقم (1455) واللفظ له، وأخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، رقم (5799) ت ط ع .
(4) أخرجه الإمام البخاري-رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب الشهادات، باب: كيف يستحلف، رقم(482)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب الأيمان، باب: النهي عن الحلف بغير الله تعالى، رقم (3105) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، رقم (18591)، وأخرجه ابن ماجه - رحمه الله تعالى- في سننه من حديث عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله تعالى عنه- في كتاب النكاح، باب: حق الزوج على المرأة، رقم (1843)، ت ط ع، في قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه .
(6) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما، رقم (13041،12093) ت ط ع، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى من حديث أنس بن مالك رحمه الله تعالى، الجزء (6) الصفحة (70) (10077)، الجزء (6) الصفحة (71) (10078)، ت م ش .
(7) انظر إلى هذه المقولة التي ذكرها الشوكاني -رحمه الله تعالى- في تفسيره فتح القدير عند تعليقه على الحديث «احثوا في أفواه المداحين التراب»(6) ذكر قول ابن هانئ الأندلسي شاعر المعز العبدي مخاطبًا له الجزء (1) الصفحة (183) (225)، ت م ش .
(8) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، في كتاب المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (3284)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، في كتاب الفضائل، باب: في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومبعثه وسنه، رقم (4330)، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
2. Syeikh Dr Yusuf Al-Qardhawi
|
|
موقع القرضاوي/19-3-2008
ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه و سلم
الخطبة الأولى
أما بعد، فيا أيها الإخوة المسلمون، كلما أهلّ علينا شهر ربيع الأول تذكر الناس مولد أعظم شخصية في الوجود، وهي شخصية محمد صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه الله تعالى من خلقه، وصنعه على عينه، وأرسله رحمة للعالمين.
وللناس في هذا الشهر أحوال في الاحتفاء أو الاحتفال بمولد محمد صلى الله عليه وسلم، واحتفاؤنا واحتفالنا واهتمامنا بمولده صلى الله عليه وسلم ليس كما يصنع الجهال والغافلون من الناس.
ليس بأن نقيم الزينات، أو نرفع الرايات، أو نوزع الحلوى، إنما احتفالنا به أن نتذكر هذا الرسول العظيم، أن نعيش في ذكراه، أي نعيش في ذكرى سيرته، أو ذكرى رسالته صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الرسول العظيم قد ترك لنا سيرة طاهرة عاطرة، وترك لنا رسالة عامة خالدة، صالحة مصلحة لكل زمان ومكان، والاحتفاء والاحتفال به أن نتذكر هذه السيرة وتلك الرسالة، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وسيرته، هي موضع أحاديثنا في هذه المدة من الزمن.
إن السيرة النبوية هي من أنصع الأدلة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه، لا يمثل نفسه، وإنما يمثل الإرادة العليا، إرادة الله عز وجل: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم:3-5].
من قرأ هذه السيرة عرف بصدق ويقين أن صاحبها لا يمكن أن يكون دعيًّا، لا يمكن أن يكون دجالا، كما لا يمكن أن يكون ملكا أو طالب ملك، لا يمكن أن يكون رجل دنيا.
صاحب هذه السيرة صادق كل الصدق، يتمثل الصدق في هذه السيرة في كل جنباتها، ومن هنا كان علينا أن نقف وقفات في جوانب العظمة والخلود والطهارة والإشراق في هذه السيرة النبوية المحمدية.
ومن حسن حظنا نحن المسلمين أن هذه السيرة محفوظة.. مروية.. مسجلة.. مخلدة.
سِيَر الأنبياء معظمها ضاعت، وما بقي منها لا يكوّن حلقات متصلة، وليس له إسناد يصلنا بهم، ولكن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم بقيت محفوظة.
محفوظة في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، محفوظة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سننه التي رواها الثقات في كتب الحديث الجامعة، في الصحيحين، في الكتب الستة، في الجوامع والمصنفات والمسانيد، محفوظة في كتب السيرة التي عُنيت بهذا الأمر خاصة، ككتب ابن إسحاق، وابن هشام، وابن كثير، وغيرهم، محفوظة في كتب الشمائل التي عُنيت بأخلاقه، وشمائله، وهديه صلى الله عليه وسلم، محفوظة في كتب الدلائل.. ودلائل النبوة والآيات والمعجزات الحسية والمعنوية المتكاثرة والوفيرة التي أظهرها الله على يديه صلى الله عليه وسلم محفوظة في كتب التاريخ العام التي خصصت جزءا كبيرا لحياته صلى الله عليه وسلم، كل هذا موجود عندنا نحن المسلمين.
والسيرة محفوظة من ألفها إلى يائها، من المولد إلى الوفاة، هذا مذكور في كتب وفي سجلات السيرة عندنا.
في السيرة: كيف ولد؟، ومتى ولد؟، ومن أرضعه؟، ومن احتضنه؟، وكيف نشأ؟، وماذا عمل في صباه؟، وماذا عمل في شبابه؟، وماذا صنع في كهولته قبل البعثة وبعد البعثة، قبل الهجرة وبعد الهجرة؟، كل هذا تحكيه لنا سيرة محمد صلى الله عليه وسلم.
حلقات متصلة مروية بأسانيدها الصحاح، لا يوجد هذا لأي نبي من الأنبياء، ولا لأي عظيم من العظماء؛ لأن الأنبياء الذين بعثهم الله بعثهم لمراحل موقوتة، لزمن محدود معلوم، ولأقاليم معينة، وأقوام مخصوصين.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فكانت رسالته عامة خالدة خاتمة "امتدت طولا حتى شملت آباد الزمن، وامتدت عرضا حتى انتظمت آفاق الأمم، وامتدت عمقا حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة" [كما قال الإمام حسن البنا].
لهذا تكفل الله بحفظ سيرته وسنته صلى الله عليه وسلم في مجموعهما، باعتبارهما البيان النظري والشرح العملي للكتاب الكريم، وحفظ المبيَّن يقتضي حفظ البيان، كما قال الإمام الشاطبي رضي الله عنه.
الله تكفل بحفظ كتابه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]، والسنة والسيرة هما الشرح النظري والتطبيق العملي لكتاب الله، لهذا حفظهما الله تبارك وتعالى.
عندنا نحن المسلمين سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم، تحكي لنا كل أحواله: أقواله، وأعماله، وتقريراته، وأوصافه الخِلقية، وصفاته الخُلقية، وسيرته كلها.
ليس هناك دائرة حمراء في هذه السيرة، يقال: هذه لا تروى، أو هذا شيء خاص لا يذكر للناس، لا.. حياته كلها صلى الله عليه وسلم ملك للناس، أكله إذا أكل، شربه إذا شرب، لبسه إذا لبس، ركوبه الدابة إذا ركب، نومه إذا نام، استيقاظه إذا استيقظ، خروجه من بيته، كل هذا، حتى صلته بأهله، حتى الصلة الجنسية تروى للناس؛ لأن فيها تشريعا، ولأن فيها اقتداء.
روت لنا السيرة كل حياته صلى الله عليه وسلم، في علاقته بربه، في علاقته بنفسه، في علاقته بزوجاته، في علاقته بأولاده، في علاقته بأحفاده، في علاقته بالناس، في علاقته بالأعداء، في سلمه إذا سالم، في حربه إذا حارب، في صلحه إذا صالح، كل هذا مروي في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى حياته الخاصة ترويها تسع نسوة، لو نسيت واحدة ذكرتها الأخرى، ليكون كل شيء أمامنا واضحا جليا (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
ما أحوجنا نحن المسلمين إلى أن نتدبر سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم، أن نعيش مع هذه السيرة، أن نستجلي جوانب العظمة المحمدية، العظمة التي أشار إليها رب العزة في كتابه.
أشار إلى جانب من جوانبها -وهو الجانب الخلقي- حينما قال: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القمر: 4]، الله زكى نبيه هذه التزكية، وليس بعدها تزكية.
ما أحوجنا إلى أن ندرس هذه السيرة دراسة المتأمل البصير؛ لنعرف كيف نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف نأخذ الأسوة، ونقتبس النور من هذه السيرة الجامعة لحياتنا.. لأنفسنا.. لبيوتنا وأسرنا.. لأبنائنا وبناتنا.. لمجتمعاتنا.. لحكامنا ومحكومينا.. نأخذ من هذه السيرة هديا، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إننا كثيرا ما نقف عند الأشياء التي لا تسمن ولا تغني من جوع، طالما كنت أسمع وأنا صغير قصة المولد، يقرءونها في القرى والأرياف، ومعظم هذه القصة تدور على أشياء وخوارق ليس فيها هذا الأمر الذي نريده: جانب القدوة، جانب التأسي، جانب العظمة في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وفي رسالته.
طالما رأينا المؤذنين يؤذنون على المآذن والمنابر، يقولون: الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله، وما ثبت أنه أول خلق الله، الصلاة والسلام عليك يا مليح الوجه يا رسول الله، أفي ملاحة الوجه هذه مجال للقدوة؟!.
المسلمون –أو أقول: الكثيرون منهم– أخطئوا فهم شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الشخصية التي أنزل عليها الرسالة الخالدة العامة، اختاره الله سبحانه وتعالى ليختم النبوات والرسالات، ويعلن أنه خاتم النبيين، وأنه لا نبي بعده.
هذه الشخصية في حاجة إلى أن ندرسها، إلى أن نعرفها، وما أكثر الجوانب التي يمكن أن نقف عندها لنعرف عظمة الشخصية المحمدية.
خذوا الجانب الرباني من سيرته وحياته صلى الله عليه وسلم، جانب التعبد لله تبارك وتعالى، إن من يقرأ في هذا الجانب، جانب العبادة.. الصلاة.. الصيام.. الذكر.. التسبيح.. التهليل.. التكبير.. الدعاء.. الاستغفار يجد قلبا نابضا بحب الله تبارك وتعالى، يجد لسانا رطبا بذكر الله تعالى، لا ينساه على كل حال، يذكر الله في كل أحواله، وعلى كل أحيانه.
انظروا إلى الرسول العابد الذي أمره الله تعالى بقوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، فكان يعبده في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه، في خلوته وجلوته، لا يفتر عن عبادة ربه.
كان يعلم أن الإنسان ما خُلق إلا لعبادة الله، وأن عبادة الله هي المهمة الأولى لهذا المخلوق الذي خلقه الله بيده، وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفة في الأرض.
كان يعلم أن مهمته أن يعبد الله عبادة مبنية على معرفة به (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات: 56-58]؛ لهذا كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس إقبالا على الله.
شرع الله الصلوات الخمس لتربط المسلم بربه كل يوم خمس مرات، لا يوجد دين يربط الإنسان بمولاه هذا الربط الوثيق، ليكون دائما على موعد مع ربه، كلما شغلته الشواغل، كلما غرق في لجة الحياة، كلما أنسته مطالب الدنيا، كلما غرق مع التجارات، مع الدينار والدرهم، لكنه حين يسمع المنادي ينادي: الله أكبر الله أكبر.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح يترك البيع والشراء، ويترك دنياه ودنيا الناس، ويهرع إلى بيت الله، هكذا علم محمد صلى الله عليه وسلم الناس.
علمهم أن الحياة إنما تكون لله وبالله، وأن الإنسان يجب أن يتحرر لمولاه، هكذا علمه ربه: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162، 163].
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم المسلم الأول في كل أمر، المسلم الأول في عبادته إذا تعبد، في ذكره إذا ذكر، في دعائه إذا دعا، في خُلقه إذا تخلق، في جهاده إذا جاهد.
كان المسلم الأول في عبادته لله، ولم تكن عبادته مجرد تسديد خانة، أو امتثالا لأمر، بل كانت عبادته عبادة الحب والشوق إلى الله سبحانه وتعالى.
كان إذا قرب وقت الصلاة يتشوق إليها ويحن لها، ينتظر وقتها بفارغ الصبر، حتى إذا حان الوقت قال لمؤذنه: "قم يا بلال فأرحنا بالصلاة" [رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه، وأحمد في مسنده]، وما أعظم الفرق بين من يقول: أرحنا بها، ومن يقول: أرحنا منها.
إنها صلاة الحب، لا مجرد صلاة الأمر، إنه كان يجد فيها نفسه، يجد فيها غذاء قلبه، وانشراح صدره، وحياة روحه، وقرة عينه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "... وجعلت قرة عيني في الصلاة" [رواه النسائي، وأحمد في المسند، وإسناده حسن].
كان يصلي الصلوات الخمس في ميقاتها، في جماعتها، بخشوعها، وركوعها، وسجودها، وإسباغ وضوئها، وما كان يكتفي بها، بل كان له صلوات.
كان يصلي من الليل، ما كانت متاعبه لتشغله عن وقوفه بين يدي ربه، إذا جن الليل، وأرخى ستوره، وغارت النجوم، وهدأت العيون، وأوى كل ذي فراش إلى فراشه، كان يقوم من الليل، ويصف قدميه مصليا لله عز وجل، ويناجيه فيقول: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، وقولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وما أسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت" [متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما].
هذا هو النبي العظيم، ما شغلته متاعب الحياة، ومتاعب الدعوة، وما شغلته حياته الخاصة، تسع نسوة لهن مطالب، ولهن حاجات، ولهن تطلعات، ومسلمون لهم حاجات، ولهم مطالب، وعليه توجيههم وهدايتهم، وجبهات تقف له بالمرصاد، تريد أن تقتلع جذوره، وأن تهدم دعوته من أساسها: الجبهة الوثنية، والجبهة اليهودية، والجبهة النصرانية البيزنطية، والجبهة المجوسية المتربصة، والطابور الخامس من المنافقين الذين يعلنون الإسلام ويبطنون الكفر (يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 9].
متاعب الحياة، ومتاعب الدعوة وهمومها، ما كانت لتشغله أن يقف بالليل مع ربه.
يقف ويطيل الوقوف حتى تتورم قدماه، حتى تتفطر وتتشقق من طول القيام، حكى عنه حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريبا من قيامه" [رواه مسلم، (رياض الصالحين للنووي: باب فضل قيام الليل)].
إنها صلاة يشعر فيها بحلاوة العبادة، يجد حلاوتها في قلبه، فلا يمل ولا يضجر ولا يسأم، وأصحابه الذين كانوا أصغر منه سنا، وأقوى منه شبابا، ما كانوا يصبرون على هذه الصلاة الطويلة، حتى قال ابن مسعود، وهو من الصحابة: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فلم يزل قائما حتى هممت بأمر سوء، قيل: ما هممت؟، قال: هممت أن أجلس وأدعه" [متفق عليه]، لم يصبر على طول القيام.
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه –من طول القيام– فقالت له زوجته عائشة مشفقة عليه: لِمَ تصنع هذا وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟، قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟" [متفق عليه].
أي أن هذه المغفرة تجعلني أزداد في الإقبال على الله؛ شكرا لنعمته، ووفاء بحقه، وقياما بحبه، هكذا كان صلى الله عليه وسلم.
كان متعبدا لله عز وجل عبادة الخشية، وعبادة المحبة، كان يصلي ويطيل السجود، ويطيل الركوع، ويطيل القيام، وله في سجوده وركوعه وما بين التكبيرات أدعية وأذكار تملأ القلب بالخشية والخشوع، وتهز كيان النفس هزا، ما أحوجنا أن نقرأها ونحفظها وندعو له!.
كان إذا ركع يقول: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح" [رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، وأبو داود، والنسائي]، ويقول: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي" [رواه مسلم عن علي رضي الله عنه].
وإذا قام من ركوعه يقول: "اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". [رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، وأبو داود، والنسائي].
وكان إذا سجد قال: "اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين" [رواه مسلم عن علي رضي الله عنه، وأبو داود، والترمذي، والنسائي].
وفيما بين السجدتين يقول: "رب اغفر لي وارحمني، واجبرني وارفعني، وارزقني واهدني" [رواه البيهقي في سننه عن ابن عباس في حديث مبيته عند خالته ميمونة رضي الله عنها، ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم].
هكذا كانت صلاته صلى الله عليه وسلم، صلاة الخشية.. صلاة الحب.
أما صيامه، فكان يصوم رمضان، هذا الشهر الكريم الذي كان يعتبره موسما لطاعة الله والإقبال عليه، فإذا جاء رمضان كان مع جبريل يدارسه القرآن، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.
"وكان إذا دخل العشر -الأواخر- شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" [رواه الستة إلا الترمذي عن عائشة]، واعتكف في المسجد، اعتزل عزلة مؤقتة عن شواغل الحياة لعبادة الله عز وجل.
كان قبل رمضان يقوم بعض الليل وينام بعضه، ولكن في هذه العشر الأواخر يحيي الليل كله لعبادة الله، ويوقظ أهله.. نساءه، ليشاركنه هذا المغنم.. هذا الخير، ما كان يحب أن يكون وحده في طاعة الله، روت عنه أم سلمة: أنه استيقظ ليلة، فقال: "سبحان الله!، ما أنزل الليلة من الفتن؟، ماذا أنزل من الخزائن؟، من يوقظ صواحب الحجرات؟ -يعني نساءه- يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة". [رواه البخاري عن أم سلمة في كتاب التهجد من صحيحه].
هكذا كان صلى الله عليه وسلم يصوم ويقوم، ولم يكن يكتفي بصيام رمضان، كما لم يكن يكتفي بالصلوات الخمس.
كان يصوم الأيام البيض من كل شهر: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر [من حديث جرير رضي الله عنه، رواه النسائي بإسناد جيد، والبيهقي]، وكان يصوم الإثنين والخميس، ولما سُئل في ذلك قال: "تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" [رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: حديث حسن غريب، وروى النسائي نحوه في حديث عن أسامة بن زيد].
كان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم، وكان أحيانا يصوم ويواصل الصيام، وينهى أصحابه عن الوصال رفقا بهم، فيقولون له: إنك تواصل يا رسول الله، فيقول: "وأيكم مثلي؟، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" [متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
لا تظنوا أنه يطعمه اللحم والأرز، أو الفاكهة، أو يسقيه الماء، لا، إنه غذاء آخر، وشراب من نوع آخر.
إنه غذاء القلب، وشراب الروح، إنه مشغول بمعرفة ربه وحبه وخشيته، لذلك شغله هذا عن الشراب والطعام والدنيا، كما قال القائل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلهـا عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور يستضــاء له ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من كلال السير أوعدها روح القدوم فتحيا عند ميعاد
من في الناس يصل إلى هذه المرحلة؟!.
إن في الحديث عن عبادته صلى الله عليه وسلم، عن هذا الجانب الرباني من سيرته يطول، ولعل لنا عودة إليه لنجلي هذا الجانب –جانب الذكر والشكر وحسن العبادة– في حياة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، فإنه من أنصع الأدلة على أنه رسول الله.
إن الدجالين لا يمكن أن يحملوا بين جنوبهم مثل هذا القلب الشاكر، ولا يمكن أن يكون لهم مثل هذا اللسان الذاكر، ولا يمكن أن يكون لهم مثل هذا البدن الصابر على طاعة الله وعبادته.
إن هذا القلب قلب النبي المحب لربه، الخائف من عذابه، الراجي لرحمته، المقبل عليه بكل همته، إنه دليل من أسطع الأدلة على أنه رسول الله، على أنه يتكلم عن الله، لا يتكلم عن هواه، ولا يصدر من عند نفسه (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 1-4].
صلى الله عليك وسلم يا رسول الله، وجعلنا الله من المهتدين بهديك، المقتدين بسنتك: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم.
الخطبة الثانية
أما بعد، فيا أيها الإخوة المسلمون:
ورد أنه في يوم الجمعة ساعة إجابة، لا يدعو بها عبد مسلم بخير إلا استجاب له، ولعلها تكون هذه الساعة.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اجعل يومنا خيرا من أمسنا، واجعل غدنا خيرا من يومنا، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارض عنا وأرضنا (...رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286].
عباد الله: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك، وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وأقم الصلاة.
No comments:
Post a Comment